صعد إلى أعلى السماوات ..
صعد إلى أعلى السماوات ..
حينما نقرأ عن صعود الرب يسوع المسيح إلى السماوات، فإننا لا نتأمل مجرد معجزة ارتفع فيها الرب من الأرض إلى السماء، بل نطأ بقلوبنا عتبة سرّ عظيم، وهو كيف أن الطبيعة البشرية التي أخذها المسيح من الإنسان الترابي، رُفعت ومُجِّدت بصعوده وجلوسه عن يمين الله الآب. هذا ليس مجرد إعلان لاهوتي، بل إنجيل حيّ، ينقلنا من أرض الذل إلى سماء المجد، ومن ظلال الموت إلى بهاء البنوة.
في
هذا المقال، نقترب بإجلال من هذه الذروة الخلاصية: لحظة صعود الإنسان في شخص يسوع
المسيح إلى الأعالي، حيث يعلن الآب قبول الذبيحة، ويُظهر الابن المجد الذي كان له
منذ الأزل في الجسد الذي أخذه منّا. نميز أبعاد هذا الحدث الخلاصي بين الهاوية
التي نزل إليها المسيح ليحررنا، والفردوس الذي فتحه لنا، والسماء التي صعد إليها
ليُدخلنا معه. ونلمس في كل ذلك عربون رجائنا الأبدي، إذ لم يعد لنا فقط مخلّص في
السماء، بل أخٌ بكر يجلس عنا وعن طبيعتنا في حضن الآب.
أولاً: هل يمكن
أن يكتمل الخلاص دون صعود المسيح؟
إن صعود المسيح هو إعلان مهيب
عن قبول الآب لذبيحة الإبن، وإيذاناً للروح القدس أن ينسكب على الكنيسة وجماعة المؤمنين، كقول المسيح "إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ
ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ." (يو 16: 7).
ويجب هنا أن نوضح: إن ذبيحة المسيح قُبلت
بالفعل على الصليب، حين أسلم روحه للآب، كما ظهر في انشقاق حجاب الهيكل وانفتاح
أبواب الفردوس. غير أن الصعود هو إستعلان مجيد لهذا القبول، وارتقاء لطبيعتنا
البشرية لحضن الآب، وختم علني أمام الخليقة كلها للفداء الذي تم بالصليب.
صعود المسيح هو بمثابة ختم الملك على صك
الغفران، وهو الصعود الذي فيه الإنسان، لأول مرة، يدخل إلى شركة المجد الأبدي. "لأَنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَيَاةُ
الَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا للهِ." (رو 6: 10). صعوده هو تمجيدنا وعربون رجائنا. وهذا ما يقصده بولس الرسول
في قوله "وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي
الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أف 2: 6).
وفي لقاء السيد المسيح مع مريم المجدليه بعد القيامة، قال لها «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي»." (يو 20: 17). في اشاره هامه إلى أن الصعود كان خطوة أساسية في التدبير الخلاصي كان يجب أن تتم بعد القيامة، حيث يتم إعلان الكفارة وقبول الذبيحة في بهاء المجد السماوي.
لم يكن الصعود انتقالًا مكانيًا فحسب، بل دخول إلى حالة من المجد والسلطان، حيث جلس الإنسان الممجَّد عن يمين الآب. وهذا الجلوس عن يمين الآب ليس تكريمًا لأقنوم الإبن، إذ لم يكن محتاجًا إلى مجد أو سلطان، لأنه في حضن الآب قبل كل الدهور، كما قال في صلاته "الآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17:5). بل إن هذا المجد أُظهِر الآن في الناسوت من أجلنا نحن الذين اتحد بطبيعتنا ليرفعها معه. وما أروع أن نعرف أن هناك جسدًا بشريًا الآن يلمع في مجد الثالوث!. هذا ما أشار إليه البابا أثناسيوس الرسولي بقوله " نحن الذين حملنا في جسده الخاص. لأنه قدم جسده للموت عن الجميع، هكذا بنفس هذا الجسد أيضاً، أعد الطريق للصعود إلى السموات" (تجسد الكلمة، ف 25)
ثانيًا: ما
هو الفارق بين النزول
للهاوية وفتح أبواب الفردوس، والصعود إلى السماوات؟
عند موته، لم يكتفِ الرب يسوع بأن يبذل نفسه عن
أحبائه، بل عبر إلى الظلمة ذاتها التي أخافت البشرية منذ سقوط آدم. لم يصعد فورًا
إلى السماء، بل نزل إلى الأعماق، ليقابل هناك أولئك الذين ماتوا على الرجاء." ذَهَبَ
فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ" (1 بط 3: 19) "وَأَمَّا أَنَّهُ
«صَعِدَ»، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلًا إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ
السُّفْلَى." (أف 4: 9). هذا النزول ليس خضوعاً للموت، بل اقتحام له؛ إعلان
أن لا مكان مظلم إلا وقد أضاءه نور الله المتجسد. وعندما قال للص التائب: " الْيَوْمَ
تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لوقا 23:43)، كان يُعلن فتح الباب الذي
أُغلق منذ طُرد آدم من أمام الكاروبيم. فكما حمل عارنا على الصليب، حمل وحدته معنا
حتى في موتنا.
لكن الدخول إلى الفردوس تمّ بالروح، بينما
الصعود إلى السماء تمّ بالجسد بعد أربعين يوماً من القيامة. الجسد الذي حملنا
جميعًا قام، وصعد، ليأخذنا معه في الارتفاع. في هذا يقول القديس إيريناؤس "دخل المسيح الفردوس بعد موته
بروحه، لكنه صعد إلى السماء بعد القيامة بجسده، لكي يرفع طبيعتنا معه" (ضد
الهرطقات 5.31.2)
إذاً، فالتدبير الخلاصي للبشرية كان يلزمه
المرور بالثلاث محطات وليس هناك واحدة تغني عن الأخرى: النزول للهاوية لفك أسر
جميع الأبرار الذين ماتو على الرجاء. والدخول للفردوس بروحه، حتي يفتح الأبواب
لموضع انتظار القديسين. وأخيراُ الصعود إلى السماوات بالجسد، لكي يرفع طبيعتنا معه
"الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ
مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ."
(في 3: 21).
هذا ما يتغنى به القديس يوحنا ذهبي الفم
"ألا ترى ما أعظم المسافة من الجحيم إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء، ومن
السماء إلى السماء العليا، ومن السماء العليا إلى الملائكة، فإلى رؤساء الملائكة،
فإلى القوات العلوية، فإلى عرش الملك نفسه؟ لقد جاز السيد بطبيعتنا كل تلك
المسافات ورفعها إلى ذلك العلو.. لقد تخطت الملائكة وتجاوزت رؤساء الملائكة...
ولم تقف حتى جلست على العرش الرباني. فانظر الآن إلى أين سقطت ثم إلى أين صعدت"
ثم يستطرد في حديثه قائلا "تأمل من هو الذي صعد، وأي طبيعة هي التي صعدت، وما
حالة هذه الطبيعة قبل صعودها ... نحن الجهال الأغبياء الحمقى... الأدنياء الأذلاء،
ها قد أصبحنا اليوم أرفع من كل المخلوقات"
ثالثًا: لماذا صعد
السيد المسيح بعد أربعون يومًا من القيامة؟ ولماذا لم يصعد مباشرة بعد القيامة؟
لقد ظهر السيد المسيح لتلاميذه أربعين
يومًا، لا عبثًا، بل ليرسخ في قلوبهم حقيقة لا تزول:
- أنه قام حقًا بجسده
- أنه هو هو، الحي إلى
الأبد
- " "اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي
أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ
كَمَا تَرَوْنَ لِي»." (لو 24: 39).
إذاً، هي أيام إعداد، وترسيخ، وتحويل للإيمان من الرؤية إلى الثقة " طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا" (يو 20: 29)
لم يكن تأخير الصعود عشوائيًا، بل كان
مقصودًا ومملوءًا بالحنان الإلهي. الرب القائم من بين الأموات، سار مع تلاميذه
خلال أربعين يومًا، يظهر، يتحدث، يأكل، يطمئن، ويُعدّ، ويفسر لهم الكتب.
فهو يعرف أن القلوب المرتجفة من الرعب، لا
تُشفى بلحظة. وأن الرجاء لا يُبنى فقط على إعلان، بل على عشرة، وعقيدة صلبة. هي
فترة انتقالية، فيها تحوّل التلاميذ من شهود حزانى إلى رسل مشتعلي القلب. ومن
متشككين إلى كارزين. ومن منغلقين في العلية إلى منفتحين على أقاصي الأرض، بحسب تعبير
القديس كيرلس الأورشليمي "ظهوره
أربعين يومًا كان لتمكين القلوب لا لإبهار العيون" (العظة 14)
رابعًا: هل كان
صعود السيد المسيح لازماً لحلول الروح القدس؟ هناك أمثلة عديدة لحلول الروح القدس
على أشخاص قبل مجيء السيد المسيح ؟
الروح القدس لم يكن غائبًا عن مشهد العهد
القديم؛ فقد رفّ على وجه المياه منذ بدء الخليقة، وملأ أنبياء الرب بالحكمة، وأقام
قضاة وملوك. لكنه لم يكن بعد قد سكن في الإنسان، لأن الإنسان لم يُطهَّر بالكامل
بعد، بل كانت في حالة ا. كانت العلاقة مؤقتة، أشبه بنعمة تُستعار وتُرفع، وليست
اتحادًا دائمًا.
لكن بعد الصليب، وبعد الصعود بالتحديد، صار
الروح القدس يسكن في المؤمنين كهيكل حي، لا لمجرد خدمة، بل لتجديد، لمسحة، ولادة
جديدة. "
أَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يو 17:14)
بحسب النبوءة " وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ."
(يوء 2: 28).
إنه ذات الروح القدس، لكن العلاقة تغيّرت.
فبعد أن صعد المخلّص، عاد المعزّي، لا ليزور، بل ليسكن. لا ليُستخدم، بل ليملُك. في العهد القديم، الروح
كان يُعطى على سبيل الإعارة – أما الآن ففي العهد الجديد، يُعطى كملك دائم يُسكن
فينا.
خامسًا: ماذا عن
القديسين الذين قاموا من القبور بعد صلب المسيح؟ هل قاموا بجسد مُمَجّد، وصعدوا
إلى السماء ؟
في لحظة موت المسيح، ارتجّت أركان الخليقة.
لم يكن الصليب حدثًا بين الأرض والسماء فقط، بل بين الزمن والأبدية. ومن عمق هذا
التزلزل، انفتحت القبور، وكأن الأرض تنطق: لقد انتهى زمان الموت.
لكن القبور لم تنطق فقط، بل أجساد القديسين
قامت بعد قيامة الرب، لا قبله – لكي يظل هو، وحده، بكر الراقدين، ومفتاح القيامة.
"وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ
مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ
قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ."
(مت 27: 52-53).
كانت قيامتهم عربونًا، إعلانًا، لا تمجيدًا
نهائيًا. ليسوا هم أولى الثمار، بل شهودًا على أن الحياة قد دُشّنت من جديد. قال القديس يوحنا الذهبي
الفم: "فُتحت
القبور وقت موته، لكن لم يقم أحد قبل قيامته، لأنه هو البكر". (عظة على متى 88).
هم لم يصعدوا إلى السماء بأجسادهم، بل بالحري رجعوا إلى قبورهم بعد أن أكملوا شهادتهم
عن عمل المسيح الخلاصي (ديونيسيوس بن صليبا)
وأخيراً ..
يا لسُمو هذا المجد! إن الذي كان يحمل صليب
العار، صار الآن مكللًا بجلال المجد، لا وحده، بل وهو يرفعنا معه. صعوده ليس فقط
تاريخه، بل دعوته لنا: أن نرتفع فوق الأرض، فوق الخوف، فوق الظلمة.
صعد المسيح، فليصعد قلبك معه...
صعد المسيح، فلتتشبث بالسماء...
صعد المسيح، وترك لنا وعدًا: "حيث أكون أنا، تكونون
أنتم أيضًا" (يو 14: 3)
يا رب يسوع المسيح، الصاعد إلى السماوات،
يا من رفعت طبيعتنا إلى مجدٍ لا يُدنى إليه، اجعلنا نشتاق إلى العلوّ، ولا نعود
نلتفت إلى تراب هذا العالم.
امنحنا، نحن الذين ما زلنا نحيا في الزمان،
أن نعيش بروح الأبدية، وأن نجاهد لنكون حيث أنت، في حضن الآب.
انسكب فينا بروحك القدوس، واملأنا من رجاء
المجد، لكي لا نعيش لأنفسنا، بل لك، أنت الذي أحببتنا، وأسلمت نفسك لأجلنا، وقمت،
وصعدت، وستأتي.
لك المجد، أيها الحمل المذبوح والممجد،
الآن وكل أوان، وإلى دهر الداهرين، آمين.
Comments
Post a Comment